Thursday, June 24, 2010

شوية قوة ف إرادتي


وقف منتظراً " الميكروباص " على ناصية شارعهم الجانبي و بعد نصف ساعة من الانتظار ، تذكر أنهم يسكنون في شارع جانبي ، و أن " الميكروصات " لم تمر يوما من هنا ، لم يوبخ نفسه فعقله كان في مكان آخر . لقد كان واقفا يحاول تذكر حلم الباحة . في أيام الامتحانات تلك حلم بكمية مهولة من الأحلام ، كمية لم يحلمها في شهر ، كان تقريباً كل ليلة يحلم بثلاثة أشخاص منهم من أحب و منهم من كره ، و منهم من أحب ثم كره ، و منهم من كره ثم أحب ! لم يستطع على مر العشرة أيام الماضية - و هي فترة بداية الامتحانات - أن يتذكر حلما واحداً ، تباً .

يسير ببطء ثم يتوقف فجأة فقد مرت على عقلة لمحة خاطفة من حلم البارحة ، لا لا ، لا أستطيع التذكر ، أين ذاكرتي الحديدية . يكمل سيره ببطء ، ينظر في ساعته ، لم يتبق على الامتحان سوى نصف ساعة ، يا لحماقتي ، بدلاً من أمسك بورق المراجعة أحاول تذكر حلم البارحة . و لكن كيف أمسك بورق المراجعة و أنا لم أستذكر الدروس !

كان حينها قد وصل إلى ناصية شارعهم الجانبي و أمامه ما لايقل عن عشرة دقائق ليصل إلى " الموقف " . يسرع الخطى شيئا فشيئا خوفا من أن يسرع فجأة فيخبو الطيف الكامن في عقله و الذي يعتمد عليه ليتذكر الحلم ، كمن يحمل شمعة واهنة اللهب . يخاف أن يجري فجأة فينطفأ و ينكفيء . يسرع شيئا فشيئا .. أسرع ، أسرع " طنننن " كان هذا صوت اصطدامه بعامود النور .

دخل اللجنة ماسكا بمنديل ليمسح الدم المتساقط من أعلى جبهته ، أطفأ جهازه الخليوي . جلس في مكانه . استغفر الله .. استغفر الله .. استغفر الله . اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا و أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا .. هل يجوز لي تلاوة الدعاء و أنا لم أذاكر ؟ ألا يعتبر هذا سوء أدب مع الله . فمن جد وجد و من زرع حصد . لم يجلس فلاحا يوما في حقله ينتظر الثمرة إلا و كان باذرا للبذور !

مدة الامتحان ساعتين ، كانت المادة تسمى " التاريخ " فهو طالب في السنة الأخيرة لكلية الآداب جامعة القاهرة ، يعشق التاريخ ، فهو مؤمن بأن التاريخ يعيد نفسه مرات و مرات . و من أدرك حكم و قوانين التاريخ سيحكم المستقبل . " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " . بدأ الامتحان و بعد مرور ساعة و خمس و خمسون دقيقة و فجأة ، بدأ لهب الحلم في عقله يشتد .. ويشتد .. و كأن الشمعة تحولت لشعلة " الأوليمبياد " ماذا أفعل ، ربما لو انتظرت حتى نهاية الامتحان يختفي الحلم مرة أخرى و تبدأ معاناتي التي تجرعت ويلاتها لعشرة أيام . فتح آخر صفحة في ورقة الإجابة . بدأ يكتب الحلم بنهم شديد . حتى انتهى . شعر براحة مع أنه لم يحل إلا ما يفوق نصف الامتحان بقليل . لم يتبقى سوى دقيقتين على نهاية الامتحان . نزع الورقة بخفة سريعة من ورقة الإجابة . دسها ف يجيبه دساً . ثم انصرف ، لم يكن يعلم ماذا سيفعل المصحح حينما يكتشف أن ورق الإجابة به ورقة منزوعة . لم يرد أن يفكر في الأمر ، لم يعجبه ذلك . خرج من اللجنة مسرعاً ، قرر يومها أن يعود لبيته ماشياً . أغلق هاتفه المحمول فهو يريد بعضا من الخلوة . عاد لبيته يومها رويدا رويداً . في منتصف الطريق رأى صديقا له ، صافحه و ابتسم في وجهه ابتسامة مصطنعة ، كان على وشك أن يسرد له الحلم الخاص به فقد حلم به منذ بضعة أيام و لكنه لم يستطع حينها أن يتذكر الحلم . مر الحديث بينهما جافا و سطحيا . لم يجد احدهما ما يقله للآخر . " السلام عليكم " " و عليكم السلام " ، أكمَلَ المَسير.

حسد صديقه السابق على ما يتمتع به من قوة نفسية و ذاكرة حديدية ، فهو لم يتذكر أنه كلمه يوما عن مشكلة له أبداً . عجيب ! لابد أنه يتكلم مع أحد ما غيري . لا يستطتع أن يصمت هكذا و نكتفي بالحديث عني دائماً . هذه طبيعة البشر هناك من يتكلم و هناك من يستمع . لكن هذا المستمع بالطبع يكون متكلماً أمام شخص آخر و هكذا . أمر طبيعي .

استيقظ اليوم التالي ، لم يحلم ليلتها بأي شيء . كانت الخلفية بيضاء أو سوداء ، كانت ليلة هائدة ، قرر أن يكتب الحلم لصديقة في رسالة ثم يرسلها له . فربما يخفف هذا الحلم من هموم ذلك الصديق . تخيل و هو يضع ورقة الإجابة المنقوش عليها حلمه أن صديقة يبتسم و هو يقرأ الرسالة . كان هذا الحلم أيضا يمثل له نوعا من الفضفضة فهو لم يتكلم مع أحد منذ أكثر من شهرين .

ذَيّل رسالته بأبيات للشاعر جمال بخيت

( مش باقي مني غير شوية ضي و عنيا مش قادرة تلمحني / في وحدتي محني / خايف أموت م الخوف و الضعف يفضحني/ السجن عشش في قلبي و ماشي في شوارعك / نفس اللي باعني و خدعني بالرخيص بايعك / هشيل حمولي أنا و لا هشيل حملك / ما عدت أملك شيء ! )

-
أخيرا .. أحياناً يكون مجرد الاعتراف و الإفشاء و المكاشفة - و على الورق ، و لو لإنسان لا نراه و لا نعرفه - أحيانا يكون مثل هذا الإفضاء و إفراغ مكنون القلب ، راحة و حلا . و لحظة صراحة من النفس قد تشفي من داء عضال عجزت كل الحيل عن مداواته .

إن كتابة رسالة ليس أبدا أمرا صبيانيا . فالكلمة شيء ساحر . و حينما تتجمع عوطفنا الحبيسة ، لتخرج في كلمة على الورق . فإن سحابة من الراحة تلفنا . و كأنما انزاحت عن كاهلنا أعباء العالم كله .


تمت